الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب فقول الله تعالى: وأما السنة فقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (( أد الأمانة إلى من ائتمنك, ولا تخن من خانك )) وروى عنه عليه السلام ((أنه كانت عنده ودائع فلما أراد الهجرة أودعها عند أم أيمن وأمر عليا أن يردها على أهلها )). وأما الإجماع فأجمع علماء كل عصر على جواز الإيداع والاستيداع, والعبرة تقتضيها فإن بالناس إليها حاجة فإنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم, ويحتاجون إلى من يحفظ لهم الوديعة فعيلة من ودع الشيء: إذا تركه أي هي متروكة عند المودع واشتقاقها من السكون يقال: ودع, يدع فكأنها ساكنة عند المودع مستقرة وقيل: هي مشتقة من الخفض والدعة فكأنها في دعة عند المودع وقبولها مستحب لمن يعلم من نفسه الأمانة لأن فيه قضاء حاجة أخيه المؤمن ومعاونته وهي عقد جائز من الطرفين متى أراد المودع أخذ وديعته لزم المستودع ردها لقوله تعالى: قال: [وليس على مودع ضمان إذا لم يتعد] وجملته أن الوديعة أمانة فإذا تلفت بغير تفريط من المودع, فليس عليه ضمان سواء ذهب معها شيء من مال المودع أو لم يذهب هذا قول أكثر أهل العلم روى ذلك عن أبي بكر وعلي, وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال شريح والنخعي ومالك, وأبو الزناد والثوري والأوزاعي والشافعي, وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى إن ذهبت الوديعة من بين ماله غرمها لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضمن أنس بن مالك وديعة ذهبت من بين ماله قال القاضي: والأولى أصح لأن الله تعالى سماها أمانة والضمان ينافي الأمانة ويروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده (( , أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ليس على المستودع ضمان )) ويروى عن الصحابة الذين ذكرناهم ولأن المستودع مؤتمن فلا يضمن ما تلف من غير تعديه وتفريطه كالذي ذهب مع ماله ولأن المستودع إنما يحفظها لصاحبها متبرعا, من غير نفع يرجع عليه فلو لزمه الضمان لامتنع الناس من قبول الودائع وذلك مضر لما بيناه من الحاجة إليها وما روى عن عمر محمول على التفريط من أنس في حفظها, فلا ينافي ما ذكرناه فأما إن تعدى المستودع فيها أو فرط في حفظها فتلفت, ضمن بغير خلاف نعلمه لأنه متلف لمال غيره فضمنه, كما لو أتلفه من غير استيداع. إذا شرط رب الوديعة على المستودع ضمان الوديعة فقبله أو قال: أنا ضامن لها لم يضمن قال أحمد في المودع: إذا قال: أنا ضامن لها فسرقت فلا شيء عليه وكذلك كل ما أصله الأمانة, كالمضاربة ومال الشركة والرهن, والوكالة وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق, وابن المنذر وذلك لأنه شرط ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه فلم يلزمه كما لو شرط ضمان ما يتلف في يد مالكه. قال: [فإن خلطها بماله, وهي لا تتميز أو لم يحفظها كما يحفظ ماله أو أودعها غيره, فهو ضامن] في هذه المسألة ثلاث مسائل: فصل: وإن أراد السفر بها وقد نهاه المالك عن ذلك ضمنها لأنه مخالف لصاحبها وإن لم يكن نهاه, لكن الطريق مخوف أو البلد الذي يسافر إليه مخوف ضمنها لأنه فرط في حفظها وإن لم يكن كذلك فله السفر بها نص عليه أحمد, سواء كان به ضرورة إلى السفر أو لم يكن وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي إن سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو أمين, ضمنها لأنه يسافر بها من غير ضرورة أشبه ما لو كان السفر مخوفا ولنا أنه نقلها إلى موضع مأمون, فلم يضمنها كما لو نقلها في البلد ولأنه سافر بها سفرا غير مخوف, أشبه ما لو لم يجد أحدا يتركها عنده ويقوى عندي أنه متى سافر بها مع القدرة على مالكها أو نائبه بغير إذنه فهو مفرط عليه الضمان لأنه يفوت على صاحبها إمكان استرجاعها, ويخاطر بها فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (( إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله )) أي على هلاك ولا يلزم من الإذن في إمساكها على وجه لا يضمن هذا الخطر, ولا يفوت إمكان ردها على صاحبها الإذن فيما يتضمن ذلك فأما مع غيبة المالك ووكيله فله السفر بها إذا كان أحفظ لها لأنه موضع حاجته فيختار فعل ما فيه الحظ.
فصل: وإن حضره الموت, فحكمه حكم السفر على ما مضى من أحكامه إلا في أخذها معه لأن كل واحد منهما سبب لخروج الوديعة عن يده.
مسألة: قال: [وإن كانت غلة فخلطها في صحاح, أو صحاحا فخلطها في غلة فلا ضمان عليه] يعني بالغلة المكسرة إذا خلطها بصحاح من ماله أو خلط الصحاح بالمكسرة لم يضمنها لأنها تتميز منها فلا يعجز بذلك عن ردها على صاحبها فلم يضمنها, كما لو تركها في صندوق وفيه أكياس له وبهذا قال الشافعي ومالك ولا نعلم فيه اختلافا وكذلك الحكم إذا خلط دراهم بدنانير, وبيضا بسود وقد حكى عن أحمد في من خلط دراهم بيضا بسود: يضمنها ولعله قال ذلك لكونها تكتسب منها سوادا أو يتغير لونها, فتنقص قيمتها فإن لم يكن فيها ضرر فلا ضمان عليه والله تعالى أعلم.
مسألة: قال: [ولو أمره أن يجعلها في منزل, فأخرجها عن المنزل لغشيان نار أو سيل, أو شيء الغالب منه البوار فلا ضمان عليه] وجملة ذلك أن رب الوديعة إذا أمر المستودع بحفظها في مكان عينه فحفظها فيه, ولم يخش عليها فلا ضمان عليه بغير خلاف لأنه ممتثل لأمره غير مفرط في ماله وإن خاف عليها سيلا وتوى, يعني هلاكا فأخرجها منه إلى حرزها فتلفت, فلا ضمان عليه بغير خلاف أيضا لأن نقلها في هذه الحال تعين حفظا لها وهو مأمور بحفظها وإن تركها مع الخوف فتلفت ضمنها سواء تلفت بالأمر المخوف أو بغيره لأنه فرط في حفظها, لأن حفظها نقلها وتركها تضييع لها وإن لم يخف عليها فنقلها عن الحرز إلى دونه ضمنها لأنه خالفه في الحفظ المأمور به وإن نقلها إلى دونه عند الخوف عليها, نظرنا فإن أمكنه إحرازها بمثله أو أعلى منه ضمنها أيضا لتفريطه, وإن لم يمكنه إحرازها إلا بما دونه لم يضمنها لأن إحرازها بذلك أحفظ لها من تركه وليس في وسعه سواه وإن نقلها إلى مثل ذلك الحرز لغير عذر, فقال القاضي: لا يضمنها وهو مذهب الشافعي لأن تقييده بهذا الحرز يقتضي ما هو مثله كمن اكترى أرضا لزرع حنطة فله زرعها وزرع مثلها في الضرر ويحتمل كلام الخرقي لزوم الضمان, لأن الأمر بشيء يقتضي تعيينه فلا يعدل عنه إلا بدليل وإن نقلها إلى أحرز منه كان حكمه حكم ما لو أخرجها إلى مثله فإن نهاه عن إخراجها من ذلك المكان فالحكم فيه كما لو أمره بتركها فيه ولم ينهه عن إخراجها منه, إلا في أنه إذا خاف عليها فلم يخرجها حتى تلفت ففيه وجهان أحدهما يضمن لما ذكرنا في التي قبلها والثاني, لا يضمن لأنه ممتثل لقول صاحبها وفي أنه إذا أخرجها لغير عذر ضمنها سواء أخرجها إلى مثله أو دونه أو فوقه لأنه خالف صاحبها لغير فائدة وهذا ظاهر كلام الشافعي وقال أبو حنيفة: إن نهاه عن نقلها من بيت فنقلها إلى بيت آخر من الدار, لم يضمن لأنه البيتين من دار واحدة حرز واحد وطريق أحدهما طريق الآخر فأشبه ما لو نقلها من زاوية إلى زاوية وإن نقلها من دار إلى دار أخرى, ضمن ولنا أنه خالف أمر صاحبها بما لا مصلحة فيه فيضمن, كما لو نقلها من دار إلى دار وليس ما فرق به صحيحا لأن ثبوت الدار تختلف فمنها ما هو أقرب إلى الطريق أو إلى موضع الوقود, أو إلى الانهدام أو أسهل فتحا أو بابه أسهل كسرا, أو أضعف حائطا أوأسهل نقبا أو لكون المالك يسكن به, أو يسكن في غيره وأشباه هذا مما يؤثر في الحفظ أو في عدمه فلا يجوز تفويت غرض رب الوديعة من تعيينه من غير ضرورة وإن خاف عليها في موضعها, فعليه نقلها فإن تركها فتلفت ضمنها لأن نهى صاحبها عن إخراجها إنما كان لحفظها وحفظها ها هنا في إخراجها فأشبه ما لو لم ينهه عن إخراجها فإن قال: لا تخرجها وإن خفت عليها فأخرجها من غير خوف ضمنها, وإن أخرجها عند خوفه عليها أو تركها فتلفت لم يضمنها لأن نهيه مع خوف الهلاك نص فيه, وتصريح به فيكون مأذونا في تركها في تلك الحال فلم يضمنها لامتثاله أمر صاحبها, كما لو قال له: أتلفها فأتلفها ولا يضمن إذا أخرجها لأنه زيادة خير وحفظ فلم يضمن به كما لو قال له: أتلفها فلم يتلفها حتى تلفت.
فصل: وإن أودعه وديعة, ولم يعين له موضع إحرازها فإن المودع يحفظها في حرز مثلها أي موضع شاء فإن وضعها في حرز ثم نقلها عنه إلى حرز مثلها, لم يضمنها سواء نقلها إلى مثل الأول أو دونه لأن ربها رد حفظها إلى رأيه واجتهاده وأذن له في إحرازها بما شاء من إحراز مثلها, ولهذا لو تركها في هذا الثاني أولا لم يضمنها فكذلك إذا نقلها إليه ولو كانت العين في بيت صاحبها فقال لرجل: احفظها في موضعها فنقلها عنه من غير خوف ضمنها لأنه ليس بمودع, إنما هو وكيل في حفظها وليس له إخراجها من ملك صاحبها ولا من موضع استأجره لها, إلا أن يخاف عليها فعليه إخراجها لأنه مأمور بحفظها وقد تعين حفظها في إخراجها, ويعلم أن صاحبها لو حضر في هذه الأحوال لأخرجها ولأنه مأمور بحفظها على صفة فإذا تعذرت الصفة, لزمه حفظها بدونها كالمستودع إذا خاف عليها.
فصل: إذا أخرج الوديعة المنهي عن إخراجها فتلفت, وادعى أنه أخرجها لغشيان نار أو سيل أو شيء ظاهر فأنكر صاحبها وجوده, فعلى المستودع البينة أنه كان في ذلك الموضع ما ادعاه لأن هذا مما لا تتعذر إقامة البينة عليه لأنه أمر ظاهر فإذا ثبت ذلك كان القول قوله في التلف مع يمينه, ولا يحتاج إلى بينة لأنه تتعذر إقامة البينة فلم يطالب بها, كما لو ادعى التلف بأمر خفي وهذا قول الشافعي والحكم في إخراجها من الخريطة والصندوق حكم إخراجها من البيت, على ما مضى من التفصيل فيه.
فصل: ولو أمره أن يجعلها في منزله فتركها في ثيابه وخرج بها, ضمنها لأن البيت أحرز لها وإن جاءه بها في السوق فقال: احفظها في بيتك فقام بها في الحال فتلفت, فلا ضمان عليه وإن تركها في دكانه أو ثيابه ولم يحملها إلى بيته مع إمكانه فتلفت, ضمنها لأن بيته أحرز لها هكذا قال أصحابنا ويحتمل أنه متى تركها عنده إلى وقت مضيه إلى منزله في العادة فتلفت لم يضمنها لأن العادة أن الإنسان إذا أودع شيئا وهو في دكانه أمسكه في دكانه أو في ثيابه إلى وقت مضيه إلى منزله فيستصحبه معه, والمودع عالم بهذه الحالة راض بها ولو لم يرض بها لشرط عليه خلافها وأمره بتعجيل حملها, فإما أن يقبلها بهذا الشرط أو يردها وإن قال: اجعلها في كمك فجعلها في جيبه لم يضمنها لأن الجيب أحرز لها لأنه ربما نسي, فيسقط الشيء من كمه بخلاف الجيب وإن قال: اجعلها في جيبك فتركها في كمه ضمنها لذلك وإن جعلها في يده ضمن أيضا, كذلك وإن قال: اجعلها في كمك فتركها في يده ففيه وجهان أحدهما يضمن لأن سقوط الشيء من اليد مع النسيان أكثر من سقوطه من الكم والثاني لا يضمن لأن اليد لا يتسلط عليها الطرار بالبط, والكم بخلافه ولأن كل واحد منهما أحرز من وجه فيتساويان ولمن نصر الوجه الأول أن يقول: متى كان كل واحد منهما أحرز من وجه, وجب أن يضمن لأنه فوت الوجه المأمور بالحفظ به وأتى بما لم يؤمر به فضمن لمخالفته وعلى هذا لو أمر بتركها في يده, فجعلها في كمه ضمن لذلك وقال القاضي: اليد أحرز عند المغالبة والكم أحرز منه عند عدم المغالبة فعلى هذا, إن أمر بتركها في يده فشدها في كمه عند غير المغالبة فلا ضمان عليه وإن فعل ذلك عند المغالبة ضمن وإن أمره بشدها في كمه, فأمسكها في يده عند المغالبة لم يضمن وإن فعل ذلك عند غير المغالبة ضمن وإن أمره بحفظها مطلقا فتركها في جيبه, أو شدها في كمه لم يضمنها وإن تركها في كمه غير مشدودة وكانت خفيفة لا يشعر بها إذا سقطت, ضمنها لأنه مفرط وإن كانت ثقيلة يشعر بها لم يضمنها لأن هذا عادة الناس في حفظ أموالهم وإن شدها على عضده, لم يضمنها لأن ذلك أحفظ لها وقال القاضي: إن شدها من جانب الجيب لم يضمن وإن شدها من الجانب الآخر, ضمنها لأن الطرار يقدر على بطها بخلاف ما إذا شدها مما يلي الجيب وهذا يبطل بما إذا تركها في جيبه أو شدها في كمه, فإن الطرار يقدر على بطها ولا يضمن وليس إمكان إحرازها بأحفظ الحرزين مانعا من إحرازها بما دونه إذا كان حرزا لمثلها وشدها على العضد حرز لها كيفما كان لأن الناس يحرزون به أموالهم, فأشبه شدها في الكم وتركها في الجيب ولكن لو أمره بشدها مما يلي الجيب فشدها من الجانب الآخر, ضمن وإن أمره بشدها مما يلي الجانب الآخر فشدها مما يلي الجيب لم يضمن لأنه أحرز وإن أمره بشدها على عضده مطلقا, أو أمره بحفظها معه فشدها من أي الجانبين كان لم يضمن لأنه ممتثل أمر مالكها, محرز لها بحرز مثلها وأن شدها على وسطه فهو أحرز لها وكذلك إن تركها في بيته في حرزها.
فصل: وإن أمره أن يجعلها في صندوق, وقال: لا تقفل عليها ولا تنم فوقها فخالفه في ذلك أو قال: لا تقفل عليها إلا قفلا واحدا, فجعل عليها قفلين فلا ضمان عليه ذكره القاضي وهو ظاهر مذهب الشافعي وحكى عن مالك أنه يضمن لأنه خالف ربها في شيء له فيه غرض يتعلق بحفظها فأشبه ما لو نهاه عن إخراجها عن منزله فأخرجها لغير حاجة وذلك لأن النوم عليها, وترك قفلين عليها وزيادة الاحتفاظ بها ينبه اللص عليها, ويحثه على الجد في سرقتها والاحتيال لأخذها ولنا أن ذلك أحرز لها, فلا يضمن بفعله كما لو أمره بتركها في صحن الدار فتركها في البيت, وبهذا ينتقض ما ذكروه.
فصل: إذا: قال: اجعلها في هذا البيت ولا تدخله أحدا فأدخل إليه قوما فسرقها أحدهم, ضمنها لأنها ذهبت بتعديه ومخالفته وسواء سرقها حال إدخالهم أو بعده لأنه ربما شاهد الوديعة في دخوله البيت, وعلم موضعها وطريق الوصول إليها وإن سرقها من لم يدخل البيت فقال القاضي: لا يضمن لأن فعله لم يكن سببا لإتلافها ويحتمل أن يلزمه الضمان لأن الداخل ربما دل عليها من لم يدخل, ولأنها مخالفة فوجب الضمان إذا كانت سببا لإتلافها فأوجبته وإن لم تكن سببا كما لو نهاه عن إخراجها فأخرجها لغير حاجة.
فصل: إذا قال: ضع هذا الخاتم في الخنصر فوضعه في البنصر لم يضمنه لأنها أغلظ وأحفظ له, إلا أن لا يدخل فيها فيضعه في أنملتها العليا فيضمنه أو ينكسر بها لغلظها عليه, فيضمنه أيضا لأن مخالفته سبب لتلفه.
|